ترأس متروبوليت بيروت وتوابعها للروم الأرثوذكس المطران الياس عودة خدمة القداس في كاتدرائية القديس جاورجيوس. وبعد الإنجيل ألقى عظة قال فيها: “يقدم لنا الرب يسوع في المقطع الإنجيلي الذي سمعناه اليوم مثلا عن ملك أراد أن يحاسب عبيده، فوجد أن على أحدهم دينا عظيما لا يستطيع سداده، عشرة آلاف وزنة تشكل مبلغا خياليا يعجز إنسان عن رده. أمر السيد ببيع العبد مع إمرأته وأولاده وكل ما له، وفاء للدين. لكن العبد ركع متوسلا الرحمة، واعدا بأنه سيوفي كل ما عليه، فتحنن السيد وأطلقه وترك له الدين بأسره. غير أن هذا العبد، بعدما خرج من حضرة الرحمة، وجد رفيقا مديونا له بمئة دينار، وهو مبلغ زهيد مقارنة بما غفر له، فأمسكه وعنفه وأخذ يخنقه مطالبا إياه بإيفاء الدين، ولم يقبل توسله بل ألقاه في السجن حتى يوفي ما عليه. عندما عرف السيد بما جرى غضب وأسلمه إلى المعذبين حتى يوفي دينه الكبير. وختم الرب المثل بقوله: «هكذا أبي السماوي يصنع بكم إن لم تتركوا من قلوبكم كل واحد منكم لأخيه زلاته».
أضاف: “يفتح هذا المثل نافذة على قلب الله ورحمته، كما يضعنا أمام مرآة لنتأمل في قساوة قلب الإنسان. فالدين الذي كان على العبد الأول يرمز إلى خطايانا تجاه الله، وهي أكثر من أن تحصى، وأثقل من أن نستطيع ردها بأعمالنا. كل منا مدين أمام الله ليس فقط بأفعاله الشريرة بل أيضا بإهماله وأفكاره وسوء أخلاقه وفشله في المحبة الكاملة. يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: «كما أن من يترك جزءا من الوصية هو كمن تركها كلها، هكذا من أهمل أن يحب أخاه قد نقض الناموس كله». مع ذلك، فإن الله لا يقابلنا بالقساوة بل يفيض علينا رحمة وغفرانا لا حد لهما، متى رجعنا إليه بتوبة صادقة. الملك الذي ترك دين عبده يرمز إلى الرب الذي «لا يشاء أن يهلك الناس، بل أن يقبل الجميع إلى التوبة» (2بط 3: 9) و«أن جميع الناس يخلصون وإلى معرفة الحق يقبلون» (1تي 2: 4 ). لكن المشكلة تبدأ حين ننسى ما غفر لنا، ونتعامل مع إخوتنا بقلب حجري ومكيال صغير. إن مشهد العبد الذي خنق رفيقه لأجل مئة دينار هو صورة صارخة عن قساوة القلب البشري حين يتعامى عن رحمة الله نحوه. يقول المغبوط أغسطينوس: «يا من غفر لك دين لا يحصى، كيف لا تغفر لمن أخطأ إليك قليلا؟ إنك بذلك تحكم على نفسك بأنك لم تفهم نعمة الغفران».
وتابع: “لا يقتصر هذا المبدأ على لحظات محددة في الحياة، بل هو قاعدة أساسية في طريق الخلاص. الرب علمنا أن نصلي: «أترك لنا ما علينا كما نترك نحن لمن لنا عليه». هذه ليست مجرد كلمات، بل عهد نعلنه أمام الله بأننا نريد التشبه برحمته. وإذا كنا لا نغفر من القلب، فإننا عمليا نطلب إلى الله أن يتعامل معنا بالمثل. لذلك يقول الذهبي الفم: «لا تطلب إلى الله ما ترفض أنت أن تعطيه لغيرك». في حياتنا اليومية، تظهر مواقف لا تعد نستفز فيها أو نجرح أو نتعرض للإهانة. قد تكون كلمة قاسية من قريب، أو ظلما في العمل، أو خيانة من صديق، أو إساءة على وسائل التواصل الإجتماعي. هذه المواقف تجرب قلوبنا وتكشف إن كنا قد تعلمنا من الملك الرحوم أو نشبه العبد القاسي. فالغفران ليس شعورا عاطفيا سطحيا، بل فعل إرادة نابع من وعي عميق للنعم الممنوحة لنا من الله، وإدراك لعمق محبته وعظيم رحمته. رب قائل إنه لا يستطيع أن ينسى الشر أو الإساءة، إلا أن الغفران لا يعني محو الذاكرة، بل أن نختار ألا نبقي الجرح سلاحا ضد الآخر، وأن نصلي من أجله طالبين أن يفتقده الله بنعمته. عدم تخطي الشر والإساءة يبقى الشيطان الذي يستغل لحظة الضعف فينا ليوقظ مشاعر الحقد والإنتقام. الغفران لا يبرر الشر ولا يلغي العدالة، بل يحرر قلوبنا من سلاسل الحقد والكراهية. العبد الذي رفض أن يغفر ألقي في السجن، وهذا رمز للسجن الداخلي الذي يعيشه القلب حين يتمسك بالمرارة والحقد. من يحقد يحمل في قلبه سجنا صغيرا يدخله بإرادته، فيفقد سلامه وفرحه ويغلق على نفسه باب السماء. كذلك ينسى أفعاله وأنه هو أيضا سيقف في يوم من الأيام أمام ديان عادل يسأله: هل رحمت أخاك كما أنا رحمتك؟”
وقال: “يعلمنا الآباء أن الحياة المسيحية ليست طقوسا أو معرفة لاهوتية وحسب، بل تطبيق عملي ومسيرة نحو التشبه بالمسيح الذي غفر لصالبيه وهو معلق. فإذا كان الرب البريء قد غفر لقاتليه، فكم بالحري ينبغي علينا نحن الخطأة المديونين، أن نغفر لإخوتنا؟ يقول القديس إسحق السرياني: «القلب الرحوم هو موضع سكنى الله، ومن لا يرحم فقد أغلق قلبه عن نعمة الروح». إن مثل اليوم دعوة عملية لنا. فحين نجد أنفسنا في مواجهة من أساء إلينا، علينا أن نتذكر أولا كم أسأنا إلى إخوتنا الذين سماهم المسيح إخوته، وكم أسأنا إلى الله، وكم غفر لنا بدم ابنه. علينا أن نتذكر أننا كنا عبيدا محكومين بالموت، فأطلقنا الملك السماوي مجانا. حين نغفر لا نفضل على الآخر، بل نحفظ غفران الله علينا، ونختبر حرية القلب وسلامه. وإن وجدنا قلبنا عاجزا عن الغفران، فلنطلب إلى الله أن يلينه، ولنترك له، هو الديان العادل، الحكم العادل علينا وعلى من أساء إلينا. كم نحن بحاجة في بلدنا إلى الغفران وتخطي الأحقاد والخلافات، والتعلم من الماضي من أجل بناء مستقبل سلامي، مستقر، آمن ومزدهر. وحدهما الغفران والمسامحة ينتشلان البلد من دوامة الصراعات والإتهامات والإدانات المتبادلة. يقول بولس الرسول: «الجميع أخطأوا وأعوزهم مجد الله» (رو3: 23 ). الغفران يتطلب توبة من الجميع «لأن ليس أحد صالحا إلا واحد وهو الله» (مت 19 :17 ) الذي هو وحده كامل، كما يتطلب تواضعا لكي يعترف الجميع بأخطائهم، بغض النظر عن حجمها. ولنترك الأمر للعدالة الإلهية متذكرين قول الرب: «أيها العبد الشرير، كل ما كان عليك تركته لك لأنك طلبت إلي، أفما كان ينبغي أن ترحم أنت أيضا رفيقك كما رحمتك أنا؟»
وختم: “دعوتنا اليوم أن نحمل في قلوبنا وصية الملك السماوي، عالمين أننا، إن غفرنا من القلب، نعيش منذ الآن في رحاب ملكوت الله، حيث لا مكان للديون القديمة، بل حياة في المحبة التي لا تزول