تتكئ تقنية “رواية عن الزمن” لجنان جاسم حلاوي، على زمنين ومكانين، هما عقد السبعينيات في العراق وربما الستينيات، ومفتتح الألفية الثالثة في السويد، بصرة العراق ويوتوبوري السويد الواقعة على بحر الشمال.
تبدأ بحضور الشرطة السويدية إلى بيت العجوز جودي المهاجر للاستفسار عن جريمة قتل، ارتكبت تحت شباكه، ويتم اعتقال رجل صومالي مدمن على الكحول، وهو جار جودي في السكن، ويعمل سائق تاكسي. ثم تأتي الانتقالة التالية في الزمان والمكان إلى مدينة البصرة، حيث يتأهب الجندي الشاب جودي لنقل جندي أسود اسمه جوهر، ارتكب جريمة قتل.
وأحداث هذه الرواية جاءت في اليوم الذي صعدت فيه القوى السياسية المعادية للمهاجرين إلى دست الحكم في السويد، حيث تبدأ قصة المهاجر جودي إسماعيل، ويتم سردها في مسارين، الأول في الماضي والثاني في الحاضر، إذ يتضافر المساران خلال الزمن حتى يلتقيا في النهاية ليقف جودي أمام تلك النهاية ذاهلاً، بعد أن يقرر البوليس السويدي إعادته إلى العراق ليحاكم في جريمة قتل ارتكبت قبل أكثر من أربعين سنة.
وهنا تلقي الرواية الضوء على جوانب عديدة في حياة المغتربين، والمهاجرين، واللاجئين. فتدوّن آلامهم وأحلامهم وانكساراتهم وحنينهم. وقد شطر الكاتب شخصيته الروائية إلى شطرين، جودي اسماعيل حين كان شاباً يخدم في الجيش وهو يتابع حياته، ويومياته، في المعسكر الواقع في مدينة البصرة، وجودي اسماعيل الشيخ الذي يعيش في مدينة سويدية يقضي أيامه في بيئة المهاجرين الموصومة بالجريمة والإدمان على الكحول والمخدرات والعنصرية الشائعة في تلك البيئة. ويتابع الكاتب كلا الشطرين في سرده بانتقالات مفاجئة يختارها الكاتب في اللحظات الفاصلة بين مشهد وآخر، وبذلك يجد القارئ ذهنه في السويد مرة، ومرة في العراق. فيما يطغي الحوار بين شخصية جودي والشخصيات التي يلتقيها في كلا الزمنين، فهناك الجندي السجين جوهر الأسود الذي يعاني أيضاً من عنصرية المحيط، وقد كلف جودي بمرافقته إلى محكمة الاستئناف في بغداد لأنه محكوم بالإعدام بسبب قتله ضابطًا، وهناك جاره الصومالي والأرمني والسويدي، ويتواصل الحُوَار على تقدم السرد بإيقاعه اليومي واللحظي.
معظم شخصيات الجزء السويدي من الرواية، من المشردين الأجانب والسويديين، مثل رضا الإيراني الذي فشل في الحصول على إقامة في البلد باعتباره معارضًا للنظام الإيراني، وتحول كي يعيش إلى جامع قناني فارغة ونبّاش قمامة، وكرستينا السويدية المشردة العجوز المدمنة على الكحول وتتمنى ابنتها لها الموت. وهذا الفضاء السفلي للمدينة هو ما يعيش فيه العجوز جودي المصاب بضغط الدم. جودي الذي نراه في شبابه يقود جنديًا أسود محكومًا بالإعدام نحو بغداد، وكان أن ألقى جوهر بنفسه من القطار عند طرف الهور قرب الناصرية، وعاد جودي للبحث عنه حتى وجده حطامًا إثر القفزة القاتلة فأدخله المشفى الوطني في الناصرية. وكان الزمن زمن ما قبل الحروب وحين كان الدينار العراقي وقتها يساوي ثلاث دولارات.
وعبر طفولة جوهر الأسود، وبيت حامد النقيب، مَحَالّ البصرة القديمة وأبي الخصيب ومعسكرات التدريب وغابات النخيل، يقودنا الكاتب إلى خلايا الحزب الشيوعي العراقي، ورابطة المرأة، وبيت النقيب الشاهد على زمن أرستقراطي بائد، وبصرة السبعينيات، وفي حفر واع لبيئة البصرة ما بعد الاحتلال ألإنكليزي، يعود بنا الكاتب إلى أحداث وشخصيات كأنها نبتت من عالم الأحلام. ومن كل تلك الأحداث يعكس الكاتب، ويرصد بوعي، المظاهر العنصرية في الشارع السويدي من خلال اللغة، وفي الحوارات بين الأجانب وأهل البلد، وكذلك إشاراتهم وأفعالهم، ووعي الأجنبي المهاجر بذلك الرفض مما يجعل الفرد الأجنبي يعيش على الهامش. وقد تصح هذه الملاحظة على الجيل الأول من المهاجرين واللاجئين، فالجيل الثاني والثالث عمومًا يعيش حالة اندماج شبه كاملة نتيجة اتقان اللغة، وامتلاك شهادات علمية صارت تؤهل الجميع في سوق العمل.
ويلاحظ في رواية جنان الجديدة أنه تجاوز جوه السابق في الاهتمام الفائق باللغة ومتانتها، والوصف الأنيق للمشاهد، بينما انتقل في هذه الرواية إلى اللغة السلسة لنقل الحدث، والحركة، والحوار المباشر، لدفع الأحداث نحو الأمام. عدا ذلك، فجنان ذهب في هذه الرواية نحو الفانتازيا، واللامعقول. وهذا ما يُلحظ في نهاية الرواية حين تبلغ الشرطة بطل الرواية جودي بأمر ترحيله إلى العراق ليحاكم في جريمة ارتكبت قبل عقود واعترف جودي بارتكابها من خلال رواية كتبها عن شخصية محامٍ بصري قُتل في بيت الوجيه حامد النقيب