سقوط قدسية السلاح… لا كربلاء تحميه ولا المهدوية تبرّره

سقوط قدسية السلاح… لا كربلاء تحميه ولا المهدوية تبرّره

كتب وليد فريجي في “نداء الوطن”:

فيما يزداد الشقاق الداخلي بين مَن يمعن في التمسك بالسلاح غير الشرعي وبين مَن يرفضه قطعًا، بعدما استجلب الدمار والحصار وأعاد عقارب الزمن إلى ما قبل العصور الوسطى في بلد يئن أصلًا من تهالك إداري ومؤسساتي واقتصادي، لا يزال سلاح «حزب الله»ومنذ ما يزيد عن عقود ثلاثة محورًا دائمًا للجدل السياسي وسببًا لتأزيم العلاقة بين مكونات الداخل، وموضع قلق إقليمي ودولي.

تعدّدت المبادرات الآيلة إلى إقناع «الحزب» بتسليم السلاح، خصوصًا من خلال الخيار الدبلوماسي الناعم الذي اعتمده رئيس الجمهورية العماد جوزاف عون مع «الحزب» طيلة 7 أشهر من دون تحقيق أي نتيجة تذكر، وعلى الرغم من إعلان رئيس الحكومة نواف سلام في جلستَي مجلس الوزراء في الخامس والسابع من آب، واللتين تمت فيهما مناقشة بند السلاح، وتكليف الجيش اللبناني وضع خطة تطبيقية لحصره قبل نهاية العام الحالي، في يد الجهات المحددة في إعلان الترتيبات الخاصة بوقف الأعمال العدائية وحدها، لمناقشتها داخل مجلس الوزراء في جلسة 5 أيلول وإقرارها، لا يزال «الحزب» على موقفه الرافض لتسليم سلاحه أو إدخاله ضمن هيكلية الدولة، مُصرًّا على ثلاثية «جيش شعب مقاومة»، وكأن شيئًا لم يتبدل في البلد.

إن إصرار «حزب الله» على التمسك بالسلاح، ينبع من جذور عقائدية ومقومات سياسية ينبغي التوقف عندها.

الخلفية العقائدية
في أدبيات «الحزب»، وتحديدًا في وثيقته السياسية الصادرة عام 2009، يُعتبر السلاح «حقًّا مشروعًا وواجبًا دينيًا لحماية الأرض والمقدسات». وفي أكثر من مناسبة شدد الأمين العام السابق لـ «حزب الله» السيد حسن نصرالله على أن المقاومة واجب شرعي، والسلاح شرف الأمة، وهو من نعم الله عليها والتخلي عنه خيانة لأمانة الشهداء» (خطاب 16 شباط 2007 ذكرى القادة الشهداء). وبالتالي ينظر «حزب الله» إلى سلاحه باعتباره امتدادًا طبيعيًا لمشروعه العقائدي المرتبط بولايـة الفقيه، حيث يشكّل العمل المقاوم أحد أركان هذه العقيدة، وليس مجرّد خيار ظرفي.

فالسلاح بالنسبة إلى «الحزب» ركيزة من ركائز الكيان الفكري والتنظيمي، يُعبَّر من خلاله عن التزامه الديني والسياسي بمحور «الممانعة»، بقيادة الجمهورية الإسلامية الإيرانية.

يقول الأمين العام لـ «الحزب» الشيخ نعيم قاسم في كتابه «حزب الله: المنهج والتجربة»، «نحن لا نتخذ قرار الحرب والسلم بأنفسنا، بل نعود فيه إلى الولي الفقيه الذي يحدد متى تكون المواجهة واجبًا شرعيًا». هذا الرابط العميق يجعل من السلاح جزءًا من نظام طاعة ديني لا قرارًا تنظيميًا.

ويشدد قاسم في كتابه على أنه لا علاقة لموطن أو مكان إقامة الولي الفقيه بسلطته وصلاحياته، وبناء على ذلك، حينما اختلف مجلس شورى «حزب الله» بخصوص مشاركتهم في انتخابات مجلس النواب عام 1992 بين من رأى المنع لاعتباره النظام السياسي اللبناني لا يحتكم للشريعة الإسلامية، ومن يرى أن للمشاركة فوائدها بالانخراط في الحياة النيابية لتشكيل غطاء سياسي للعمل المقاوم ضد الاحتلال ولحماية سلاح «الحزب»، رفع مجلس شورى «الحزب» الموضوع إلى المرشد الإيراني علي خامنئي رغم أن القضية تمس شأنًا لبنانيًا، فأفتى بمشاركة «الحزب» في الانتخابات النيابية، وذلك بحسب ما أورده قاسم في كتابه عن «حزب الله».

ويوضح قاسم أن قيادة «الحزب» بما فيها مجلس الشورى تحصل على شرعيتها من الولي الفقيه، وبناء على تلك الأدبيات التي ذكرها قاسم في كتابه فإن القرارات التي تمس الحرب والسلم من المتوقع ألا ينفرد بها «الحزب» دون استشارة المرشد الأعلى في إيران.

هذا الارتباط العميق بسلطة الولي الفقيه، يحتم على «الحزب» العودة إليه في كل شاردة وواردة، فكيف بالحري لو تعلق الأمر بموضوع تسليم السلاح؟

إن ما يعزز هذا البُعد العقائدي هو خطاب «الحزب» الدائم عن «المظلومية» و»المواجهة المفتوحة مع المشروع الإسرائيلي والأميركي»، حيث يتموضع السلاح في قلب هذه المواجهة، باعتباره الضامن لاستمرارية المقاومة وبقائها حيّة في وجه المؤامرات.

وفي هذا السياق توضح الباحثة أمل سعد غريب في كتابها «حزب الله: سياسة الجهاد»، أن «الحزب» يرى المقاومة المسلحة «واجبًا دينيًا مستمرًا لا يتوقّف بانتهاء الاحتلال، بل يتجدّد بتجدّد الخطر الوجودي على الأمة الإسلامية».

يهدد الشيخ نعيم قاسم بحرب كربلائية داخلية. إن فكرة المستضعف في مواجهة المستكبر مرتبطة برمزية الإمام الحسين الذي قاوم رغم قلة العدد والعدة، الأمر الذي يجعل السلاح رمزًا للواجب الديني في الدفاع عن الحق.

المهدوية والاستعداد للظهور
الإمام المهدي في العقيدة الشيعية الإثني عشرية هو «الإمام الغائب» الذي سيعود ليملأ الأرض قسطًا وعدلًا. يروى في بعض الأحاديث أن أنصاره سيكونوا مستعدين ومسلحين وعلى أهبة القتال عند ظهوره. إن ترجمة هذه العقيدة في خطاب «الحزب»، وتحديدًا في المحاضرات الدينية أو الثقافية الداخلية، تربط السلاح بفكرة أن المؤمن يجب أن يكون مستعدًا للالتحاق براية المهدي. وفي بعض المناهج التعبوية لـ «الحزب» يشار إلى أن المقاومة هي جزء من حفظ السلاح حتى يحين زمن الإمام.

لسلاح «الحزب» بعد إقليمي، فهو ليس محصورًا بالدفاع عن لبنان، بل يُعتبر أداة لنصرة المستضعفين في فلسطين، سوريا، العراق، اليمن وغيرها. وفي هذا السياق يرى «الحزب» أنه يمارس وظيفة إلهية في وجه الهيمنة الغربية، ما يجعل تسليم السلاح، بحسب هذا المنظور، تخلّيًا عن رسالة إلهية كونية لا محلية فقط.

يتغذّى التشبث بالسلاح أيضًا من وجدان تاريخي لدى البيئة الشيعية اللبنانية، التي لطالما شعرت بالتهميش والعزلة، ووجدت في «حزب الله» منذ تأسيسه ضمانة لقوتها وحضورها في المعادلة اللبنانية. كما أنه ومنذ الاجتياح الإسرائيلي في العام 1982 وما تلاه، ترسخت صورة السلاح في الخيال الشيعي كسلاح مقاومة حرر الأرض خصوصًا بعد انسحاب عام 2000.

بعيدًا من الأيديولوجيا والعقيدة، شكل السلاح مصدرًا مباشرًا لنفوذ «حزب الله» في الداخل اللبناني والذي يوازي امتلاك حق النقض. بقوة هذا السلاح، فرض معادلات سياسية وأطبق على مفاصل الدولة ومؤسساتها بما فيها القضاء، وامتلك قرار الحرب والسلم وثبَت حضوره كلاعب لا يمكن تجاوزه في أي تسوية أو تعيينات أو تشكيلات إدارية وقضائية ومالية وانتخابية منذ 2005.

في حالات كثيرة، كان السلاح عنصر ترهيب، كما حصل في أحداث 7 أيار 2008، يومها فرض «الحزب» معادلة جديدة في الداخل: «ممنوع المس بسلاحه ليتحوّل من حزب مقاوم إلى قوة حاكمة. كذلك يوم أسقط «الحزب» في العام 2011 حكومة سعد الحريري بقوة السلاح الناعمة لرفضه تمويل المحكمة الدولية الخاصة باغتيال الشهيد رفيق الحريري، وتكليف الرئيس نجيب ميقاتي برئاسة الحكومة بشروط «الحزب» وتجميد فعلي لمقررات المحكمة الدولية.

ناهيك عن منعه التعيينات الأمنية والقضائية في 2013 – 2015 واستخدام نفوذه المسلح لفرض فراغات إدارية أو فرض أسماء موالية، وتكريسه للفراغ الرئاسي (2014 -2016) بسلاح غير مرئي من خلال رفضه انتخاب أي رئيس غير ميشال عون وتعطيله الجلسات النيابية لأكثر من سنتين وفرض عون مرشحًا أو لا أحد ووصول الأخير إلى بعبدا وفق معادلة «السلاح مقابل الرئاسة».

كما مارس الترهيب والتهديد على المحقق العدلي في قضية انفجار مرفأ بيروت القاضي طارق البيطار. وما زال يحتفظ حتى اليوم بالأمن الذاتي في الضاحية الجنوبية والمناطق ذات الأغلبية الشيعية في الجنوب والبقاع ومواصلته التهديد العلني باندلاع فتنة إذا فُرض نزع السلاح، بالإضافة إلى التهريب عبر الحدود وحمايته المعابر غير الشرعية.

 

ومن أبرز الحجج التي يقدّمها «الحزب» هي معادلة الردع مع إسرائيل، معتبرًا أن سلاحه هو السبب الأساسي في منعها من شنّ حروب جديدة على لبنان. وعلى الرغم من سقوط هذه الحجة بعد «حرب الإسناد»، بعدما فشل في حماية نفسه وقائده وبيئته، يصر على التمسك بالمعادلة الواهمة في وجه أي دعوة إلى نزع السلاح، متهمًا خصومه بـ «الارتهان للمشروع الأميركي الإسرائيلي».

 

إذًا، دائمًا ما يرفع «حزب الله» شعار «غياب الدولة الحقيقية» واتهامها بالعجز، ويستند إلى وقائع تاريخية ومعاصرة لتبرير سلاحه. من الاجتياح الإسرائيلي عام 1982، إلى حرب تموز 2006، مرورًا بالفراغات الدستورية والانقسامات السياسية وصولًا إلى حرب «الإسناد».

الأسباب الموجبة لتسليم السلاح :
الإقناع
إن إقناع «حزب الله» وبيئته الحاضنة بتسليم السلاح للدولة يتطلّب مقاربة متعددة الأبعاد. بعد وصول رئيس الجمهورية جوزاف عون إلى قصر بعبدا، والرئيس نواف سلام إلى السراي، وأمام الفرصة التاريخية السانحة لقيام الدولة، والشروع في ورشة الإصلاحات، بات القاصي والداني على دراية بأن سلاح «الحزب» يشكل حملًا ثقيلًا على كتفيّ الدولة والشعب والمؤسسات وحتى على الطائفة الشيعية التي دفعت أثمانًا باهظة بسبب هذا السلاح.

 

وعقب قرار مجلس الوزراء بتكليف الجيش اللبناني بوضع خطة تطبيقية لحصر السلاح قبل نهاية العام الحالي، بات لزامًا على «حزب الله» الالتزام بتسليم السلاح بدلاًً من التصعيد والمضي قدمًا في سياسة تخوين الحكومة للأسباب الآتية:

 

الفصل
صحيح أن «الحزب» لن يتخلّى عن عقيدته، لكن يمكن دفعه نحو فصل «السلاح الإيماني» عن السلاح العسكري. بمعنى أن «الحزب» يستطيع أن يبقى حالة مقاومة فكرية وثقافية، من دون أن يحتفظ بسلاح فعلي خارج إطار الدولة.

تجارب
على «الحزب» أن يدرك، كما أدركت حركات مقاومة في العالم، أن العقيدة لا تتطلب حمل السلاح الدائم. فالمؤتمر الوطني الأفريقي في جنوب أفريقيا و «إيتا» الإسبانية و«الجيش الجمهوري الإيرلندي» كلهم انتقلوا من البندقية إلى السياسة، من دون أن يتخلّوا عن روايتهم النضالية.

 

 

حماية السلاح
في الفكر الجهادي، السلاح أمانة، وأمانته تقتضي أن يكون في يد سلطة شرعية تمثل جميع اللبنانيين، كي لا يصبح سبب فتنة أو صراع داخلي.

تحويل الانتصار
يقول القرآن: «وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة»… هذه القوة يجب أن تصب في خدمة الأمة كلها، وليس فئة واحدة، كي لا تتحول إلى سبب انقسام.

 

 

التحرر
في الموروث الشيعي، إن حفظ الدماء مقدم على القتال حين تنتفي الضرورة. وبالتالي بتسليم السلاح، يزول خطر الفتنة الداخلية، وهو ما يمكن اعتباره واجبًا دينيًا.

 

 

ربط السلاح بالمهدي
إذا كان السلاح أمانة حتى ظهور الإمام المهدي، فإن حفظه في مؤسسات الدولة الجامعة قد يكون أصدق وفاء لهذه الأمانة، بدل أن يكون في عهدة فصيل معرض للاستهداف السياسي.

 

توحيد القرار
لا يمكن لأي دولة أن تستقر بوجود قرارَين عسكريين منفصلَين، لأن ذلك يعرّض البلد لعزلة سياسية واقتصادية، ويفتح بابًا للتدخلات الخارجية.

فقدان المبرر وتعزيز الشرعية
إن الشرعية الدستورية لا تعترف بأي سلاح خارج الدولة. فالمادة «ب» من المبادئ العامة من «اتفاق الطائف» تنص على أن لا سلاح إلا بيد الشرعية، والدستور اللبناني يربط السيادة بالسلاح الشرعي فقط. كما أن خطاب القسم والبيان الوزاري أكدا حصرية السلاح بيد الدولة وبسط سلطتها كاملة على كل أراضيها. كما أن تسليم السلاح إلى الدولة يعيد للبنان صدقيته في تطبيق القرارات الدولية (1559 و1701)، ما يفتح الباب لدعم اقتصادي وسياسي أوسع.

 

 

إنهاء الانقسام الداخلي
إن جزءًا كبيرًا من المعارضة الداخلية لـ «حزب الله» سببه احتكار السلاح، وبزواله تتعزز الوحدة الوطنية.

إذًا يمكن تصور الظروف الموجبة لتسليم سلاح «حزب الله» بحسب رئيس قسم الدراسات الدولية والسياسية في الجامعة اللبنانية الأميركية الدكتور عماد سلامة على النحو الآتي:

كلما ارتفع العبء السياسي والمالي الذي تتحمله إيران نتيجة دعمها لـ «حزب الله»، زادت احتمالات قبول «الحزب» بخيار تسليم السلاح أو دمج قدراته العسكرية في إطار الدولة اللبنانية. هذا العبء قد يتفاقم بفعل عوامل متداخلة، منها:

 

* تشديد العقوبات الدولية على الشخصيات والمؤسسات الإيرانية المرتبطة بآليات الدعم المالي والعسكري لـ «الحزب».

* تصاعد الإدانات المحلية والدولية لهذا الارتباط، بما يضع «الحزب» وإيران في موقف دفاعي أمام الرأي العام.

* زيادة وتيرة الاستهدافات العسكرية والاقتصادية لما تبقى من منظومة الحرس الثوري الإيراني وشبكاته الإقليمية، ما يقلّص القدرة اللوجستية والتمويلية.

يضيف سلامة، تصبح كلفة الدعم الإيراني سياسيًا وماليًا العامل الحاسم في تحديد قابلية «الحزب» للتخلي عن السلاح، إذ يتحوّل من ورقة قوة استراتيجية إلى عبء يهدد استقرار الداعم قبل المستفيد.

LinkedIn
Share
Copy link
URL has been copied successfully!

الأخبار