يقف أمامنا اليوم كما وقف أمام ذلك الشاب سائلا: هل أنت مستعد أن تملكني قلبك بالكامل؟ هذا السؤال ليس نظريا، بل عملي، لأن التخلي عن الغنى بكل أشكاله، أي التعلق بالماديات الزائلة وبالألقاب والمراكز والمنافع، يتطلب جهادا حقيقيا. هنا نفهم كلام الرب على صعوبة دخول الغني إلى الملكوت. ليست المشكلة في الغنى، بل في القلب الممتلئ بمحبة المال، الفارغ من محبة الله. الإنسان الذي يعتمد على ما يملك، يصعب عليه أن يشعر بالحاجة إلى النعمة. لذلك قال الرب إن الأمر مستحيل على البشر، لأن قلب الإنسان لا يستطيع أن يحرر نفسه من أهوائه بقوته الخاصة، لكن المستحيل يصبح ممكنا بالنعمة الإلهية. هذا ما أكده القديس مكاريوس الكبير بقوله: «النفس إذا لم تأت إليها النعمة من فوق، لا يمكنها أن تتحرر من رباطات الشر». أحيانا، قد نجرب بأن نضع ثقتنا في ما نملك من شهادات وخبرات ومعارف، أو حسابات مصرفية ومراكز عالية، أو ارتباطات نستقوي بها، لكن الرب يذكرنا بأن كل هذا زائل، وأن كنزنا الحقيقي في السماء. قال الرب للشاب: «إن كنت تريد أن تكون كاملا فاذهب وبع كل شيء وأعطه للمساكين، فيكون لك كنز في السماء، وتعال اتبعني». عندما نختبر العطاء السخي، والتخلي الطوعي، والتواضع والمحبة نزداد غنى في الله. لذلك يربط الآباء القديسون بين هذا النص وبين التطويبة: «طوبى للمساكين بالروح، لأن لهم ملكوت السماوات». الفقر بالروح هو العيش بقلب حر معتمد على الله وحده لا على الذات”.
وقال: “لو وضعنا نحن اللبنانيين ثقتنا في الرب، واعتمدنا عليه وحده، واستجدينا نعمته، لكنا تحررنا من رباطات الشر ووفرنا على أنفسنا وعلى بلدنا الكثير من السقطات، لكن بعض اللبنانيين يعتمدون على أموالهم ومراكزهم ومواقفهم أو على قدراتهم الذاتية أو قوتهم قبل اعتمادهم على الرب، أو بعيدا عنه، ظانين أن المراكز والأموال والسطوة وكل المكتسبات أبدية، متناسين أن لكل شيء نهاية. الصحة والعمر والمال والأعمال والمراكز والبأس والحظوة والزعامة كلها زائلة وليس أبدي إلا الله، لذلك على الإنسان أن يحسن استعمال النعم والوزنات والمواهب الممنوحة له من الله لكي لا تكون عثرة له بل بابا للخلاص. إن دعوة المسيح للشاب الغني موجهة لكل منا. ليست دعوة للحزن كما فعل الغني، بل دعوة للفرح الذي لا يسلب، لأن من يترك كل شيء لأجل المسيح، يأخذ أضعافا هنا وحياة أبدية هناك. فلنتذكر أن ما نتركه في سبيل المسيح لا نخسره، بل نحفظه في السماء حيث لا يفسد ولا يسرق ولا يزول”.
وختم: “يريد الرب أن يحرر قلوبنا من كل رباط حتى نحبه بكل كياننا، وحتى نخلص. فلنسأل نعمة الرب ورحمته، وهو ينير سبيلنا ويعتقنا من كل قيد ويجعل المستحيل ممكنا، ويحول محبتنا من أرضية إلى سماوية”.











